[justify]
علوم ومعلومات عامة
الذاكرة والدماغ
يقترب الباحثون من تعرّف القواعد التي يتبعها الدماغ لتثبيت الذاكرات.
وقد يقود اكتشاف كود الذاكرة هذا إلى تصميم حواسيب وإنسالات
أكثر ذكاء وحتى إلى طرق جديدة لإنعام النظر في العقل البشري.
يعتمد الدماغ على جمهرات كبيرة من عصبونات تعمل بتناغم لتمثِّل وتشكِّل ذاكرة خبرات الكائن الحي.
لقد تبيّنَت في حصين hippocampus الجرذ (وهي منطقة حاسمة بالنسبة إلى تشكيل الذاكرة) مجموعات جزئية من مثل هذه الجمهرات (أُعطيت لقب «عُصْبات عصبية») تستجيب لنواح مختلفة لحادثة. ويمثل بعضها معلومات عامة مجردة حول موقف معين، وبعضها الآخر يشير إلى معالم أكثر انتقائية.
يمكن تطبيق الانتظام التراتبي hierarchical organisation نفسه الذي يستخدمه الدماغ لتسجيل الذاكرات، وذلك لغرض تحويل مجموعات من الدفعات impulses الكهربائية إلى إدراك ومعرفة وسلوك. وإذا كان الأمر كذلك، فإن عمل الدماغ يقرّب الدارسين أكثر فأكثر من كشف الكود العصبي الشامل؛ أي القواعد التي يستخدمها الدماغ لتحديد خبرات الجسم وفهمها.
لقد حوّل المؤلف وزملاؤه تسجيلات نشاط العُصبة إلى كود ثنائي binary code. ويمكن لهذا التمثيل الرقمي للإشارات الدماغية أن يكوّن أساسا لتجميع دليل كودي codebook خاص بالمخ ـ بمعنى أداة لأرشفة الأفكار والخبرات ومقارنتها عبر الأفراد، وربما عبر الأنواع الحية المختلفة.
يمتلك أي شخص وجد في مكان أثناء تعرضه لهزة أرضية ذاكراتٍ مفعمة عنها: تهتز الأرض، ترتجف، تعلو وتنخفض؛ يزدحم الهواء بأصوات الهزيم والتصدُّع وتشظّي الزجاج؛ تتفتح الخزن وتتكسر؛ تتهاوى الكتب والأطباق والحلي من على الرفوف. إننا نتذكر مثل هذه الوقائع بوضوح مؤثِّر ولسنوات عديدة، لأن ذلك هو ما تطوّرت أدمغتنا كي تفعله: استخلاص المعلومات من أحداث بارزة واستخدام تلك المعرفة لتوجيه استجاباتنا تجاه أوضاع مشابهة في المستقبل. وهذه القابلية للتعلم من الخبرات السابقة تتيح لجميع الحيوانات أن تتكيَّف مع عالم معقّد ودائم التغيّر.
وطوال عقود من الزمن، حاول علماء الأعصاب إماطة اللثام عن كيفية تمثيل الدماغ للذاكرات. والآن، عبر ضمّ مجموعة من تجارب جديدة ذات تحليلات رياضياتية قويّة وقدرة على تسجيل متزامن لنشاطٍ يشمل ما ينوف على 200 عصبون لدى فئران يقظة، اكتشفتُ وزملائي ما نعتقده الآلية الأساسية التي يستخدمها الدماغ لاستخلاص معلومات حيوية من الخبرات experiences وتحويل تلك المعلومات إلى ذاكرات memories. وتنضاف نتائجنا هذه إلى جملة متنامية من الأبحاث تشير إلى أن التدفق الخطي للإشارات من عصبون إلى آخر لا يكفي لشرح كيفية تمثيل الدماغ للمدركات والذاكرات ، بل ما نحتاج إليه هو النشاط المتناسق لمجموعات كبيرة من العصبونات.
إضافة إلى ذلك، تشير دراساتنا إلى أن المجموعات العصبية المضطلعة بتكويد الذاكرات تقوم أيضا باستخلاص نوع المفاهيم العامة التي تسمح لنا بتحويل خبراتنا اليومية إلى معارف وأفكار. وهكذا قرّبت نتائجُنا علماء البيولوجيا من فكّ رموز الكود العصبي الشامل؛ أي القواعد التي يتَّبعها الدماغ لتحويل الدفعات impulses الكهربائية إلى إدراك وذاكرة ومعرفة، وفي نهاية المطاف، إلى سلوك. إن مثل هذا الفهم يمكن أن يتيح للباحثين تطوير حدود مشتركة بين الماكينة machine والدماغ أكثر حبكا، وتصميم جيل جديد كليا من حواسيب وإنسالات ذكية، وربما أيضا تجميع سجل يتضمن كودات العقل قد يُمكّن من تفكيك رموز ما يتذكره المرء أو يفكر به، وذلك من خلال رصد نشاطه العصبي.
الفأر الذكي «دوگي» يثير أسئلة
لقد نما بحث مجموعتي في الكود الدماغي من عمل ركّز على الأساس الجزيئي للتعلُّم والذاكرة. ففي خريف عام 1999 أمكننا استيلاد سلالة فئران تمت هندستها لتمتلك ذاكرة محسّنة . فهذا الفأر الذكي الذي حمل اسم «دوگي» Doogie (نسبة إلى الدكتور الشاب الذكي <دوگي هاوزر> في الدراما التلفازية لأوائل تسعينات القرن الماضي) يتعلم بسرعة أكبر من فئران النمط البرّي wild type ويتذكر الأشياء لمدة أطول. ونشير هنا إلى أن هذا العمل أثار اهتماما ونقاشا كبيرين لدرجة أنه شكل صورة غلاف لمجلة Time. بيد أن نتائجنا جعلتني أتساءل: ما هي الذاكرة بالضبط؟
عرف العلماء أن تحويل الخبرات الإدراكية perceptual experiences إلى ذاكرات طويلة الديمومة يتطلب وجود منطقة دماغية تسمى الحُصَيْن hippocampus. وعرفوا أيضا أي الجزيئات يكون ضروريا من أجل ذلك، مثل المستقبل النمداوي (2) الذي عدّلناه فولّد الفأر «دوگي». لكن ما من أحد عرف بالضبط كيف أن تنشيط الخلايا العصبية في الدماغ يمثل ذاكرة. ومن جانبي فقد بدأتُ منذ سنوات قليلة أتساءل ما إذا كنا نستطيع إيجاد طريقة لتوصيف ماهية الذاكرة رياضياتيا أو فيزيولوجيا. فهل نستطيع أن نحدِّد ديناميّة الشبكة العصبية ذات الصلة وأن نصوِّر نمط النشاط الذي يحدث لدى تشكُّل ذاكرة ما؟ وهل نستطيع استبيان المبادئ الناظمة التي تمكِّن المجموعات العصبية من استخلاص وتسجيل أكثر التفاصيل حيوية لخبرة ما؟
ولكي نتعلم شيئا ما حول الكود العصبي المعني بالذاكرة، فقد احتجنا أولا إلى تصميم تجهيزات رصد دماغية أفضل. لقد أردنا مواصلة العمل على الفئران، بحيث نستطيع جزئيا في آخر الأمر إجراء تجارب على حيوانات ذات مقدرات معدّلة وراثيا genetically altered لغرض التعلُّم والتذكر، مثل الفأر الذكي «دوگي» وفئران طافرة ذات ذاكرة متضرّرة. ونشير هنا إلى أن الباحثين قد رصدوا أنشطة مئات العصبونات لدى قرود يقظة، لكن الباحثين الذين عملوا على الفئران حقّقوا في أحسن الحالات تسجيلات من 20 أو 30 خلية في آن معا ـ وذلك لأن دماغ الفأر ليس أكبر بكثير من حبة فول سوداني. وهكذا قمت مع < L.لين> [الذي كان حينذاك زميلا ما بعد الدكتوراه في مختبري] بتطوير أداة تسجيل سمحت لنا برصد أنشطة أعداد من عصبونات فرادى أكثر من ذلك بكثير في فئران يقظة وسلوكها حرّ.
حــــــيـــاكم اللـــه
--------------------------------------------------------------------------------