إنه أبي يا سادتي . وليس من المعقول أن أكرهه . لكنه يضطرني أحيانا إلى أن أتهمه بالقسوة والغلظة . لماذا لا يقدر ضروفي ؟ عصري الذي أعيش فيه أنا يختلف كثيرا عن عصره تماما . فلماذا لايترك لي الحرية في مسايرة عصري ؟ هل يريد أبي أن أكون نسخة عنه ؟ مستحيل هذا .لم يكن في عصر أبي تلفاز ملون . ولا فيديو ولا انترنت...ولا كرة .... نعم . ولا كرة .. ولا كل هذه
المظاهر الحضرية .
لماذا يزعجني ويقمعني كلما رآني جاسا أمام التلفاز لمشاهدة مبارة ؟ لماذا يقذفني بعباراته القاسية " طائش .. لا تقدر مصلحتك ....لا تعرف قيمة الوقت ..." وحتى مع إخوتي الصغار . لا يتورع عن ذلك . إنه مصيري يا أبي . وأنا أعرف كيف أتخذ القرار إنجازه صحيح أني حافظ لكتاب الله عزوجل . وأني طالب بمدرسة ورش . وفي تخصص إسلامي . تلك هي رغبة أبي .ولكن لا أحب هذا التخصص . ولو أني أكتب في مواضيعه كثيرا . لا . بل أحب أن أكتب فقط . وبيني وبينكم . أنا لا أحب أيضا أن يقال عني كاتب ماهر عملاق. أو يقال أديب ثرثار. أنا لا أحب الفرع الأدبي.. ولأكن صادقا معكم صريحا أكثر . أنا لا أحب تلك القلعة الشامخة . ذات الأبواب الخشبية التي ترتفع طولها إلى الآفاق . والتي يرفرف فوقها علم وطننا . أنا لا أحب تلك التي يسموها " مدرسة ورش " لأنها هي سجن غريب علي .. ولكن الظروف ... الظروف وحدها جعلتني أكون في حضنها . فوالدي يضايقني بكثرة التوجيهات. والعمل في البادية شاق وعسير. وأبناء القرية كلهم قدموا المدينة. وأنا لا أتحمل الوحدة في قريتي . لا بد لي من قرناء. فاللهم أذهب إلى مدرسة ورش وأكبر فيها وأترعرع . وأتجول في مدينة بركان. وأتعرف على طرقها الملتوية . وأزقتها ودروبها وشوارعها. خير لي من أن أقعد في البادية مكبوتا معزولا عن الحضارة متخلفا ...
لكن لا أنسى أبدا أنني كنت أدفع إلى النجاح دفعا . وربما لأن السادة المدرسين رحماء . إلى درجة كبيرة . وهم بالتالي ينزعجون من رئية شاب مثلي ذو شارب طويل وعضلات ممتدة وقامة طويلة . وصوت يشبه صوت البوق . يرسب كل عام .. ولهذا لم أتعثر في حياتي التعليمية أبدا ولا أتقد ذلك . نسيت أن أقول لكم أن موعد امتحاني سوف يكون بعد غد تماما . وعلي أن أكون في السابعة . والويل لمن تأخر. وأنا بطبيعة الحال . لا أتخر عن الموعد . لأني أكون مستعدا تماما . والخطة الإستراتيجية التي تجعلني أنجح هي الغش والخداع . وأنا ضربت لهذه الخطة حسابا . وجمعت جميع الحيل وجئت بها معي إلى المدرسة . وأنا أعترف لكم أني ضعيف في جميع المواد الدراسية . ما عدا الرياضيات. عفوا.. ليس في الرياضيات كلها . وإنما ما يتعلق منها بالدائرة والمستطيل . أي بالكرة والملعب. وما ذا يهم غن كان الإمتحان غدا أو بعد غد . إن الدورة الثانية كفيلة بأن ترفع كل الراسبين . وتجعلهم أندادا لزملائهم في الدورة الثانية . أما قمر نايل سات . فليس له دورة ثانية . أقصد أني ملزم بمشاهدة المبارة الحاسمة في موعدها .
قد تعتقدون أني أتحدث معكم بلغة الإفراد . وأن هذا الكلام لا يعني إلا أنا . الذي هو أنا بالطبع وحده .....اطمئنوا يا أحبتي . إن المسألة جماعية. فهي مسألة جيل بأكمله . أعني الجيل الكروي المخلص لا أكتمكم بأني معجب ببعض المعلقين الكروين .قرأت يوما تعليقا على أحد هم تحت رسم كريكاتير . " مساء الخير .. ما رأيكم بثوبي الجديد .. إليكم نشرة الأخبار الرياضية .. تفوق المنتخب ......"
ولكن إعجابي لا يبلغ كماله إلا بالمعلق الكروي المدهش , الذي يطلق صوته على مداه . وكانه بوق سيارة إطفاء _ أجاركم الله _ ليس مهما أن تكون لغته فصيحة . فنحن لسنا في معرض الفصاحة العربية . المهم هو أن يكبر ويسبح المعلق عندما يسجل هدف أحد الصليبين , ولهذا فإنني أحب .بل أعشق كل كلمة ينطق بها المعلق . لأنها دائمة ساخنة وثائرة ..
ظانا الآن سأصبر معكم . وأكمل لكم قصتي . ولو أن المعلق الكروي الشهير , يعلن عن ابتداء أكبر مبريات الموسم . بعد ربع ساعات فقط ... وهاهي المدرجات تغص بعشرات الألآف من العشاق والمشجيعن . إن أنفاسي تتلا حق الآن , وإن القلم يكاد يسقط من يدي بكثرة السرعة . وأنا أكاد أن أبعثر كل ما كتبته لكم . وإن السيجارة التي هي بين إصبعي الشمال ترتعش . وقد طردت كل من في الحجرة . لأكون قادرا على استيعاب كل كلمة تخرج من المعلق . وكل حركة يؤديها اللاعبون .....
بصراحة
أناأعتبر الكرة وجها حضاريا . وإن لم أقل أنها هي الحضارة بعينها . ةهي الرقي والتقدم . وهي الحضارة في زمن الحرائق والمشانق .. أستطيع أن أفتخر أن ذاكرتي تختزن الآن أكثر من مائة رسم لنجوم كوروين عالمين ما عدا الحكام . وأول أمس فقط تحداني صديق لي . في أن أعد له أسماء 40 لا عبا وأربعين فريقا عالميا . ولم تمضي غير فترة وجيزة . حت ارتسمت الإبتسامة الصفراء على شفتيه غيظا مما فعلت . وإن منت قبل أسبوع وأما جمهور من الطلا ب . قد أحسست بالخجل البالغ . وأنا أجيب عن السؤال الذي وجه إلأي في مسابقة ثقافية ما ذا تعرف ابن سينا وابن رشد ؟؟ ولما عز علي أن أعرفهما قلت هما زعيمان لدولاتان في القارة الإفريقية . عندها انفجر الحاضرون بالضحك والمشرف يردد عظيم ...... عظيم...... جميل..... وأخيرا تبين لي أنهما من صناع الحضارة في الأنلدس الإسلامية . ومن الذين ساهموا في نشر الإسلام وبناء مجد الحضارة. وأكل عليهما الدهر وشرب .
أنا ابن عصري وابن ساعتي الآن . ففرحتي غامرة . وبعد عشرة دقائق سأشاهد على هذه الشاشة الصغيرة الحبيبة مبارة الموسم . بين " برشلونة * وإنتر ميلانو * استمتعت كثيرا . وددت أن لو كنتم معي عندما كنت أشاهد المبارة . بل تمنيت أن تدوم المبارة حتى الصباح .. لقد كانت المبارة ساخنة . ألم أقل لكم إن أبي قاس علي .. لا يقدر مشاعري وضروفي . حتى في أخطر المواقف . يزعق في وجهي " إنهض إلى دراستك يا حمار . امتحانك بعد خمسة أيام ."
رفع يديه ليصفعني . لكنه تذكر أني شاب في طوله . وأنني لست دجاجة دائما . اكتفى بذلك وخرج . والشر في وجهه وصفق الباب من خلفه بقوة . عندها أحسست بالإرتياح ورحت أتابع المشهد المثير . أعترف يومها أنني لم أستيقظ حتى العاشرة . مما جعل ثلا ث حصص تطير مني .. غير مهم . كل شيئ يعوض . والنقل عملة متداولة بين التلا ميذ الآن . نعم . كل شيئ قابل للتعويض. أما لحظات الإنسجام فإنها لا تعود . أقول لكم رغم استمتاعي بتلك المبارة فإن استمتاعي اليوم بهذه المبارة أعظم وألهف . وها أنذا أنتظر ها بشوق وعلى حر من الجمر . وينتظرها معي صندوق من التبغ والذي أحرقت نصفه قبل أن تبدأ . فقلبي يدق ونبضاته مخيفة . متى تنطلق المبارة .؟ ويصطفان الفريقان أمامي بالأناشيد الوطنية . وهتافات الجماهير .
صديقوني . لقد أصبح تفكيري كرويا . وأنا فخور بذلك. أمة بلا كرة _ أقولها بصراحة _ أمة متخلفة . بل لا تعلم أبجديات الحضارة . وإني أتوخى لأمتي كل التقدم والإزدهار في مدراج الرقي . ولهذا أجس بالفرح الغامر . كلما رأيت مدرج اللعب عامرا بمئات المشجعين العاشقين للكرة . وأنا أساهم مساهمة فعالة في ميدان الكرة . لست لا عبا بطبيعة الحال . فجسمي النحيل لا يسمح لي بالجري . كذلك صدري الذي هده التدخين . غير أن هذا لا يعني أني لا أودي دورا مهما . كأحد المشجعين المرموقين . والمثقفين البارزين . طرق الباب . نهضت بسرعة وعيني على الشاشة . إنه أخي الصغير .
_ ماذا تريد ؟
_ أريد مشاهدة المبارة ...
_ ليس هناك مبارة لقد تأجلت ..
_ لا إنني أسمع " الماش "
_قلت لقد تأجلت ....
وقبل أن يجيبني كنت أدفعه بقوة خلف الباب . لا تؤاخذوني قلت لكم إني ذو مزاج خاص . وعلي أن أستوعب كل حركة . وكل كلمة في هذه المبارة . وأخي هذا من عادته أن يصرخ ويهيج . كلما رآى حركة بارعة من أحد اللاعبين . وأنا لا أحب الضجيج. وأنكر على زملا ئي الذين يخرجون عن آداب مشاهدة المباريات .
نظرت إلى ساعتي . إنها تشير إلى الرابعة إلا ثلاثة دقائق. نهضت بسرعة . أرخيت استار النافذة . حتى لا ينفذ شعاع إلى الشاشة . فيشوه الصورة . أشعلت سيجارة جديدة . وصوبت عيني بشكل جيد إلى الشاشة .
ما ذا حدث ؟ مستحيل إن الموسقى الكروية تغيرت . إنني أسمع موسيقى جديدة .لا علا قة لها إطلاقا بالكرة . لم نسمعها من قبل في المباريات أبدا . لم تعد الشاشة صافية كما كانت . بدأت تقطعها موجات سريعة مرتجفة ولم يتوقف ذلك . نظر ت إلى الساعة الملتفة حول معصمي مرة ثانية . إذا هي قد جاوزت الساعة الرابعة بخمس دقائق... بسبع دقائق... بعشرين دقيقة ...
وفجأة أطل المذيع
سيداتي سداتي .. نتأسف لهذا الخلل الفني . ونعتذر عن عدم استطاعتنا نقل هذه المباريات الكبر ى.. بين فريق * برشلونة * وإتر ميلانوا * ونعدكم بعرضها في الوقت آخر.... أعلن رئيس وزراء العراقي... وانطلق يذيع الأخبار.......
أما أنا فقد كدت أفقد صوابي . خصوصا عندما دخل والدي علي بشكل مفاجئ . وهو يرتجف غضبا ويصرخ
_ أما تزال قاعدا ..... انهض إلى دروسك يا حمار ......
فعلمت أن هذه القصة تروي ثقافة الشباب العربي . فطويتها وقدمتها لزملائي يقرؤونها
منقوووووووووول للافادة