البيداغوجيا الفارقية وتقنيات التنشيط -4-
بقلم:عبد العزيز قريش
مفتش تربوي
ـ كون الميثاق الوطني للتربية والتكوين عرف أهمية التنشيط في بناء الفرد والمجتمع، من خلال لجنته؛ وعرف قيمته التداولية في التوافق والتسيير والتدبير. فحمل همه وجعله روحا للميثاق، وترجم تلك الروح إلى بنود ومواد ناطقة وصريحة في هذا الباب. فأسست الأجرأة لهذه الروح على تلك المواد وظهرت في شكل مواد قانونية وتشريعية ملزمة. ستظهر من خلال بعض المعالم الكبرى فيما بعد.
فالتنشيط في الميثاق يعد آلية وأداة عملية، في انفتاح المؤسسة التعليمية على محيطها الاجتماعي المحلي والإقليمي والجهوي والوطني والعالمي؛ بما في هذا المحيط من غنى ثقافي واقتصادي وسياسي وديني وإيديولوجي وتكنولوجي ومعلوماتي... للاستفادة من خبراته وتجاربه ومعطياته المعرفية والقيمية والسلوكية والاجتماعية والأدائية، والاغتناء منها وبها... كما هو انفتاح للمؤسسة على ذاتها لتطوير كفاياتها وكفايات روادها. لأنها تساهم بقسط كبير في تمكين المتعلم من التنشيط ومن آلياته وأدواته وأساليبه وخططه وقيمه وأخلاقياته، بل هي المدخل الحقيقي لتنشيط الفرد في المجتمع؛ كونها مجتمعا صغيرا مبسطا للمجتمع الكبير الذي يخرج إليه المتعلم، يتضمن تفاعلات وعلاقات اجتماعية تتطلب الكثير من التنشيط...
والميثاق بهذه الروح يعد المرجع الحقيقي للمؤسسة في التنشيط. إذ تنبع منه تلك الروح، في شكل مواد فلسفية مؤطرة للمنظومة التربوية، وحامية لها من كل تعسف يسقط التنشيط من النظام التعليمي المغربي. وتعلن عنها خاصة في المواد التالية: 9 و 48 و 131 و 132. وأضحى التنشيط بهذه المواد وبالمواد المؤجرأة لها إطارا ومرجعا قانونيا، يمنح المنشط في المؤسسة التعليمية حق الممارسة الميدانية للتنشيط، ويضمن له هذا الحق في إجرائه داخل الفعل التعليمي من خلال تنشيط جماعة قسمه؛ سواء على صورة نشاط مدمج أو نشاط مستقل بذاته. كما أصبح التنشيط جزء لا يتجزأ من بنية برامج المؤسسة التعليمية التي تضعها المجالس المختصة حسب التشريعات المدرسية المعلنة.
هذا فيما يخص التنشيط مفهوما واسعا وشاملا، بينما هو في تفعيل جماعة القسم ينحصر وتضييق مساحته حتى يتعلق بتقنيات وإجراءات محددة داخل القسم لتحريك المتعلمين نحو فعل التعلم والتعلم الذاتي.
في مفهوم التنشيط:
التنشيط مادة لغوية من الجذر المعجمي ( ن ش ط ) ، وتعني جملة من المعاني تنطلق من المعنى النووي لعقد، وهو في الحقل التربوي يفيد لغة عقد العزم على فعل شيء، والتهيؤ له والاستعداد لإنجازها، وتصييره واقعا ملموسا. وأما اصطلاحا؛ فإنه يفيد عملية التحفيز والحث على فعل شيء وتحريكه والمشاركة فيه. إلا أنه يختلف معناه الاصطلاحي في بعض حيثياته من حقل معرفي أو تطبيقي لآخر. ومنه لم أجد تعريفا للتنشيط في معجم علوم التربية؛ وإنما وجدت تعداد تقنيات التنشيط التربوي، وهي تقنيات تهم تنشيط المجموعات الكبرى والصغرى. في مقابل ذلك وجدت تعريفا لمعهد التنشيط بتونس يقول: ( يعرف التنشيط على أنه جملة من العمليات التي يقوم بها فرد أو مجموعة من الأفراد بهدف إدخال تعديل أو تغيير على سلوك إنساني أو مكان أو محيط في إطار تربوي وثقافي وفق أهداف مضبوطة ومحددة. وهو يعتمد أساسا على المكونات التالية:
ـ المنشط: القائم بالفعل والمؤطر
.ـ المنشط: المفعول معه.
ـ المكان والزمان: الوعاء الوظيفي للنشاط.
ـ الوسائل: المادية والبيداغوجية
ونحن نجد بين ثنايا هذه الورقة ما يسمح لي بمساحة اجتهادية، تمكنني من مسوغات تقديم تعريف إجرائي للتنشيط يقوم على:
أ ـ المعنى المعجمي النووي.
ب ـ ورود المصطلح على الوزن الصرفي " تفعيل " بما يتضمن من معنى الحركة والفعل...
ج ـ طبيعة التنشيط القائمة على طرفين في الحد الأدنى.
د ـ مكنون فعل " التنشيط " الدال على التفاعل بما يفيد التأثير والتأثر.
حيث يمكن تقديم هذا التعريف الإجرائي بالصيغة التالية:
التنشيط فعل تفعيل وضعية سكونية أو شبه سكونية نحو وضعية تفاعلية بين مكونات مختلفة ضمن نسق معين، يستهدف إحداث ناتج معين
والتنشيط بهذا المعنى يتوقف على:
1ـ معرفة وقيم ومهارات وقدرات وكفايات، ليدل على الفعل المعجمي والاصطلاحي لـ " ن ش ط "؛ ذلك لا فعل إلا بالمعرفة والقيم والمهارات والقدرات والكفايات، حيث لا يوجد فعل مؤسس على فراغ بل لابد من استباقات ناشئة عن نشاط الإنسان السابقة المتراكمة لديه، والتي يتفاعل بها ويفعل بها...
2 ـ وضعية سكونية أو شبه سكونية، جامدة بصفة نهائية أو شبه نهائية أو خاملة فاقدة للطاقة...
3 ـ فعل التفعيل، بمعنى الإنجاز الفعلي للتنشيط؛ بما يضمن التفاعل بين المكونات، وتحريك النسق نحو اكتساب الطاقة الحرارية المحركة...
4 ـ استهداف التنشيط ناتج نعين، سواء أكان معرفيا أو ماديا أو معنويا، كما أو كيفا.. مثلا في المجال التعليمي: تحقيق كفايات معينة عند المتعلم.
والتنشيط هنا؛ في هذه الورقة تنشيط مطلق، لم يتحدد بمجال معين بالعين أو بالوصف أو بالموضوع وإنما تركناه كذلك حتى يستوعب كل تنشيط هادف يمارس في المؤسسة التعليمية أو خارجها من خلال متعلميها. فالتنشيط متعدد منه مثالا لا حصرا: التنشيط التربوي والتنشيط المسرحي والتنشيط الثقافي والتنشيط الاجتماعي والتنشيط الاقتصادي والتنشيط السياسي... حيث أصبح التنشيط في المدرسة المغربية مكونا رئيسا من مكونات بنية الفعل التدريسي، لأنه يمكن المتعلم المغربي من مجموعة من الكفايات المتنوعة والمختلفة، ويدعم مكتسباته بطرق جد فعالة؛ مبنية على المشاركة والتفاعل بين التلميذ وموضوع التنشيط. ولي من واقع الممارسة ومن أدبيات الحقل التربوي الأدلة الكثيرة، ذلك أنه على سبيل المثال؛ التدريس في التاريخ من خلال المسرح المدرسي أنجع من تدريس التاريخ بالإلقاء، حيث مسرحة النص التاريخي تحيل المتعلم على معالم شخوصية وزمانية ومكانية وحدثية معينة، يمسك بها درسه، ويستحضره مشخصا حيا، ليحاكم النص ذاته من حيث مصداقيته العلمية والتاريخية، وليحاكم واقعه في ضوئه... ويستحضر اللحظة التاريخية الحاسمة في المسار التاريخي للدول والشعوب والحضارة الإنسانية. وكذا التدريس بواسطة الورش اليدوية، التي تسمح للمتعلم بمقاربة موضوعه انطلاقا من ملامسة المادة الخام، وتشكيل هذه المادة وفق المستهدف من الدرس؛ ذلك أن العمل اليدوي يحيل إلى الخبرة الأدائية والتقنية والفنية للمتعلم، فضلا عن معلوماته ومعرفته واستحضار مكتسباته السابقة... كما أن التدريس واسطة التكنولوجيا البسيطة في المؤسسة التعليمية، من بين أهم الطرق الحديثة التي تربط بين النظري والتطبيقي، وتؤهل المتعلم للأداء التطبيقي المؤسس على الواقع والتجربة المؤطرة بالنظري...
والتنشيط في مفهومنا ليس ترفيها أو مضيعة للوقت كما يظن البعض به؛ وإنما هو مكون حقيقي من مكونات الفعل البيداغوجي، تلح عليه عشرية التربية والتكوين، وتحث عليه فلسفة الميثاق، وتقننه المواد التشريعية المدرسية. لكنه في البيداغوجيا الفارقية أو بيداغوجيا المجموعات هو دينامو للفعل التعليمي التعلمي، ينهض بتنشيط مجموعات القسم وفق تقنيات معينة ومعروفة في المجال التربوي. وتحقيق التواصل فيما بينها. وبذلك يمكن أن نعرف التنشيط داخل القسم ب:
تعريف التنشيط التربوي:
1 ـ " إضفاء الحيوية على جلسة تعلمية بقصد تنمية التواصل بين المتعلمين وتنظيم مساهماتهم في بناء التعلم" .
2 ـ " تفاعل وعمل جماعي يغني الدينامية المعرفية لأفراد المجموعة قصد تحسين قدراتها الوجدانية والسلوكية والمعرفية، مع دفع لتغيير الواقع السلبي الذي يعيشه الأفراد ( المشاركون ) وتعزيز فكر نقدي باعتماد مصلحة الجماعة أو لضمان تماسكها ومحيطها..
ومنه فإن التنشيط التربوي متعلق بتحريك الفعل التعليمي نحو الفعل التعلمي داخل جماعة القسم، لتحقيق بناء المعرفة والمهارات والسلوك والقيم والقدرات المختلفة لدى المتعلمين المشاركين في جماعة القسم. وهذا التحريك منوط بالمنشط الذي يبعث الحياة في جماعة القسم، لأنه " هو الذي ينفخ الحياة في ندوة أو عمل من أعمال جماعة، فيثير، ويحفز، ويرشد، ويوجه، وينظم مبادرات وتدخلات المشاركين " ، كما أنه عليه انطلاقا من هذا " أن يحس بمسؤوليته في وضعية واستمرارية الجماعة وفعاليتها
3 ـ " مجموعة من الإجراءات والسيرورات والتدخلات والتفاعلات وأفعال التحفيز والحث والاستثارة والمواقف والتصرفات والأفعال الصادرة عن المنشط ( المسؤولين )؛ التي من شأنها تسهيل وإنجاح العمل الجماعي
4 ـ " محاولة خلق وتنمية نشاط في مجموعة أو غيرها بناء على رغبات ودوافع واهتمامات محركة لهذا النشاط
ونرى التنشيط التربوي في مستوى الاصطلاح الإجرائي: " حفز لأعضاء المجموعة على الإقبال على النشاط بجدية، وإشراكهم فيه، وتسهيل لمهامهم وأدوارهم في إنجازه مع إبقاء التلاحم والتواصل بين أعضائها في ظل توجيهات وإرشادات المنشط ( الأستاذ ) ". وهو يقوم أساسا على التعليم التعاوني الذي يعرفه كود Good " بأنه تغيير في السلوك ناتج كليا أو جزئيا عن تجربة اثنين أو أكثر من الأشخاص ويقول عنه سلافين Slavin : إن مصطلح التعلم التعاوني يشير إلى تكنيكات صفية ينشغل من خلالها الطلبة بنشاطات تعليمية في مجموعات صغيرة، ويتلقون من خلالها تعزيزا أو تقديرا مستندا إلى أدائهم في مجموعاتهم.