[justify]
الحمد لله الَّذي شهِدتْ له بربوبيَّته جَميع مخلوقاتِه، وأقرَّت له بالعبوديَّة جَميع مصنوعاته، وأدَّت له الشَّهادة جَميع الكائنات أنَّه الله الَّذي لا إلهَ إلا هو، بِما أوْدعها من لطيف صنعه وبديع آياته، وسبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ورضا نفسِه، وزنة عرشه، ومداد كلماتِه، ولا إلهَ إلاَّ الله الأحدُ الصَّمد الَّذي لا شريك له في ربوبيَّته، ولا شبيه له في أفعالِه، ولا في صفاته، ولا في ذاته، والله أكبر عددَ ما أحاط به علمُه، وجرى به قلمُه، ونفذ فيه حكمه من جَميع بريَّاته، ولا حوْل ولا قوَّة إلاَّ بالله، تفويض عبدٍ لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا، بل هو بالله وإلى الله في مبادئ أمره ونهاياته.
أشهد أن لا إلهَ إلاَّ الله وحْدَه لا شريكَ له، ولا صاحبة له، ولا ولدَ له، ولا والدَ له، ولا كفْء له، الَّذي هو كما أثْنى على نفسِه وفوق ما يُثْنِي عليه أحدٌ من جميع بريَّاته.
وأشهد أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسوله، وأمينه على وحْيه، وخيرته من بريَّاته، وسفيره بيْنه وبين عباده، وحجَّته على خلقه، أرْسلَه بالهدى ودين الحق بين يدَي السَّاعة بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه، وسراجًا منيرًا، فصلَّى الله وملائكتُه وأنبياؤُه ورسله وجميع خلقه عليه كما عرَّفنا بالله، وهدانا إليْه وسلَّم تسليمًا كثيرا[1]. اهـ.
أمَّا بعد:
لقد تدبَّرت كتابَ الله، وما تيسَّر لي من أحاديث النَّبيِّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - وكلام سلفِنا الصَّالح وأئمَّة الإسلام، فوقفت على معانٍ عظيمة، وعِبَر باهرة في باب الأسماء والصفات، تحرِّك القلوب الغافلة، وتَهدي العقول الحائِرة، ومهْما سطرت لك من بُنَيَّاتِ أفكاري ما استطعت أن أوفي الأمرَ حقَّه، ولكنَّ الإشارة تغني اللبيب عن العبارة، وما قلَّ وكفى خيرٌ ممَّا كثر وألهى.
وهذه المقالة هي إشارةٌ لبيان أهميَّة دراسة الأسماء والصِّفات؛ لكي تعْلُو همَّتُك وتقوى عزائمُك ويشتدَّ طلبك، ولا تمل في سعيك حتَّى تصِل إلى بُغْيَتك، وتدور المقالة على ثلاثة محاور:
1- الأسماء والصفات عليْها مدار الإيمان.
2- الأسماء والصِّفات ركن من أركان التَّوحيد.
3- الأسماء والصِّفات ذروة سنام العبوديَّة.
الأسماء والصفات عليْها مدار الإيمان:
الإيمان بالله لا يتحقَّق إلاَّ بالإيمان بالأسماء والصفات:
لأنَّ الإيمان بالله يتضمَّن أربعة أمور:
1- الإيمان بوجودِه سبحانَه وتعالى.
2- والإيمان بربوبيَّته.
3- والإيمان بانفرادِه بالألوهيَّة.
4- والإيمان بأسمائه وصفاته[2].
فمن الإيمان بالله: الإيمان بأسمائه الحسنى وصفاته العُلْيا الواردة في كتابه العزيز، والثَّابتة عن رسوله الأمين، من غير تَحريف ولا تعْطيل ولا تكْييف ولا تَمثيل[3].
يقول الإمام ابن القيّم:
"فإنَّ التَّصديق الحقيقي بـ "لا إله إلاَّ الله" يستلْزم التصديق بشُعَبها وفروعها كلّها، وجميع أصول الدين وفروعه من شعب هذه الكلمة؛ فلا يكون العبد مصدقًا بها حقيقة التَّصديق حتَّى يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقائه، ولا يكون مؤمنًا بالله إلهِ العالمين حتَّى يؤمن بصفات جلاله ونعوت كماله، ولا يكون مؤمنًا بأنَّ الله لا إلهَ إلاَّ هو حتَّى يسلب خصائص الإلهيَّة عن كل موجود سواه، ويسلبها عن اعتقاده وإرادته، كما هي منفيَّة في الحقيقة والخارج، ولا يكون مصدقًا بها من نفَى الصفات العليا، ولا مَن نفى كلامه وتكليمه، ولا مَن نفى استواءَه على عرشه وأنَّه يرفع إليه الكلِم الطيّب والعمل الصَّالح، وأنَّه رفع المسيح إليْه، وأسرى برسولِه - صلَّى الله عليه وسلَّم - إليه، وأنَّه يدبِّر الأمر من السَّماء إلى الأرض ثمَّ يعرج إليْه، إلى سائر ما وصف به نفسَه ووصفه به رسولُه - صلَّى الله عليه وسلَّم"[4].اهـ.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية:
"وما وصف الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - به ربَّه - عزَّ وجلَّ - من الأحاديث الصِّحاح التي تلقَّاها أهل المعرفة بالقبول، وجب الإيمان بها كذلك، مثل قولِه - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ينزل ربُّنا إلى السَّماء الدنيا كلَّ ليلة حين يبقى ثلُث الليل الآخر، فيقول: مَن يدعوني فأستجيب له؟ مَن يسألني فأعطيه؟ مَن يستغفرني فأغفر له؟))[5]، وقوله - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((لله أشدُّ فرحًا بتوبة عبدِه من أحدِكم براحلته))[6]، وقوله - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((يضْحك الله إلى رجُلين يقتُل أحدهُما الآخر كلاهُما يدخل الجنَّة))[7]، وقوله: ((عجِب ربُّنا من قنوط عبادِه وقرب غيره ينظر إليكم أزلين قنِطِين فيظل يضحك يعلم أنَّ فرجكم قريب))[8]، إلى أمثال هذه الأحاديث التي يخبر فيها رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن ربِّه بما يخبر به.
فإنَّ الفرقة النَّاجية - أهل السنَّة والجماعة - يُؤْمنون بذلك كما يؤمنون بِما أخبر الله به في كتابِه العزيز، من غير تحريفٍ ولا تعطيلٍ، ومن غير تكييفٍ ولا تمثيل، بل هم الوسط في فرق الأمَّة كما أنَّ الأمة هي الوسط في الأمم، فهم وسط في باب صفات الله - سبحانه وتعالى - بين أهل التَّعطيل الجهميَّة، وأهل التَّمثيل المشبِّهة[9].اهـ.
وكذلك الإيمان برسولِه لا يتحقَّق إلا بتصديقه فيما أخبر عن ربِّه.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:
يجب على الخلق الإقرار بما جاء به النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فما جاء به القرآن العزيز أو السنَّة المعلومة وجب على الخلْق الإقرار به جملةً وتفصيلاً، عند العلم بالتَّفصيل، فلا يكون الرَّجُل مؤمنًا حتَّى يقرَّ بما جاء به النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو تحقيق شهادة أن لا إلهَ إلاَّ الله وأنَّ محمَّدًا رسول الله، فمن شهِد أنَّه رسولُ الله شهِد أنَّه صادق فيما يُخْبِر به عن الله - تعالى - فإنَّ هذا حقيقة الشَّهادة بالرسالة، إذِ الكاذب ليس برسولٍ فيما يكذبه، وقد قال الله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوَتِينَ}[10].
إذا تبيَّن هذا، فقد وجب على كل مسلم تصديقُه فيما أخبر به عن الله تعالى، من أسماء الله وصفاته، ممَّا جاء في القرآن وفي السنَّة الثَّابتة عنه، كما كان عليْه السَّابقون الأوَّلون من المهاجرين والأنصار، والذين اتَّبعوهم بإحسان، الذين رضي الله عنْهم ورضوا عنه"[11]. اهـ.
وأيضًا الإيمان بكتاب الله لا يتحقَّق إلاَّ بالإيمان بالأسماء والصِّفات:
"لأنَّ القرآن المجيد عُمْدته ومقصوده الإخْبار عن صفات الرَّبِّ - سبحانه - وأسمائه وأفعاله وأنواع حمدِه والثَّناء عليه، والإنباء عن عظمتِه وعزَّته وحكمتِه، وأنواع صنعه والتقدُّم إلى عباده بأمرِه ونَهْيه على ألسِنة رسله"[12].اهـ.
"فالقرآن كلّه بيان لصفة الله - عزَّ وجلَّ - فهو إمَّا إخبار عن ذات الله وصفاتِه، أو عمَّا صنعه بأوليائِه من الرُّسل والمؤمنين، وهذا بيان أفعالِه وإكرامه وإحسانه، أو عمَّا أحلَّه بأعدائه وهذا من صفاته، فالقُرآن من أوَّل بسم الله الرَّحمن الرحيم إلى {مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [الناس: 6] كلّه بيان لصفات الله - سبحانه وتعالى"[13]. اهـ.
فالقُرآن الكريم لا تكاد تخلو آيةٌ من آياته من صفة لله - سبحانه - أو اسم من أسمائِه الحسنى.
قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة:
"والقُرآن فيه مِن ذِكْر أسماء الله وصفاته وأفعاله أكثرُ ممَّا فيه من ذكر الأكْل والشُّرب والنكاح في الجنَّة، والآيات المتضمِّنة لذكر أسماء الله وصفاته أعظم قدرًا من آيات المعاد، فأعظم آيةٍ في القرآن آيةُ الكرسي المتضمِّنة لذلك، وأفضل سورة سورة أمّ القرآن، وفيها مِن ذكر أسماء الله وصفاته أعظم ممَّا فيها من ذكر المعاد"[14]. اهـ.
فالإيمان بالله يتضمَّن الإيمان بصفاته، والإيمان برسوله يتضمَّن الإيمان بكلّ ما أخبر به عن مرْسله، والإيمان بالكتاب الذي نزل على رسوله يتضمَّن الإيمان بكل ما جاء فيه من صفات الله - عزَّ وجل.
الأسماء والصّفات ركنٌ من أركان التَّوحيد.
لأنَّ التَّوحيد على قسمين:
1- توحيد العلم؛ أي: (الاعتقاد والخبر).
2- توحيد العمل؛ أي: (القصد والطلب).
يقول الإمام ابن القيم: "فأمَّا توحيد العلم: فمداره على إثْبات صفات الكمال، وعلى نفْي التشبيه والمثال، والتنزيه عن العيوب والنقائص، وقد دل على هذا إثبات الحمد له - سبحانه - فإنَّ الحمد يتضمَّن مدح المحمود بصفات كماله، ونعوت جلاله، مع محبَّته والرّضا عنه، والخضوع له، فلا يكون حامدًا مَن جحَد صفات المحمود، ولا مَن أعْرض عن محبَّته والخضوع له، وكلَّما كانت صفات كمال المحمود أكثر كان حَمده أكمل، وكلَّما نقص من صفات كماله نقص مِن حمْدِه بحسبها؛ ولهذا كان الحمد كلّه لله حمدًا لا يحصيه سواه، لكمال صفاته وكثرتها؛ ولأجل هذا لا يُحصي أحدٌ من خلقه ثناءً عليْه؛ لما له من صفات الكمال، ونعوت الجلال التي لا يُحصيها سواه؛ ولهذا ذمَّ الله - تعالى - آلهة الكفَّار، وعابها بسلْب أوصاف الكمال عنها، فعابَها بأنَّها لا تسمع ولا تبصر، ولا تتكلَّم ولا تهدي، ولا تنفع ولا تضرّ، وهذه صفة إله الجهميَّة، الَّتي عاب بها الأصنام، نسبوها إليْه، تعالى الله عمَّا يقول الظَّالمون والجاحدون علوًّا كبيرًا.
فقال تعالى حكايةً عن خليلِه إبراهيم - عليه السَّلام - في محاجَّته لأبيه: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً}[15]، فلو كان إله إبراهيم بهذه الصِّفة والمثابة لقال له آزر: وأنت إلهك بهذه المثابة، فكيف تنكر عليَّ؟! لكن كان - مع شِرْكه - أعرف بالله من الجهميَّة، وكذلك كفَّار قريش كانوا - مع شِرْكهم - مقرِّين بصفات الصَّانع - سبحانه - وعلوّه على خلقه، وقال تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداًّ لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ}[16] فلو كان إله الخلق - سبحانه - كذلك لم يكن في هذا إنكار عليهم، واستدلال على بطلان الإلهيَّة بذلك.
وهذا أمرٌ معلوم بالفِطَر والعقول السليمة والكتب السماويَّة: أنَّ فاقد صفات الكمال لا يكون إلهًا، ولا مدبِّرًا، ولا ربًّا، بل هو مذْموم، معيب ناقص، ليس له الحمد، لا في الأولى، ولا في الآخرة، وإنَّما الحمد في الأولى والآخرة لِمن له صفات الكمال، ونعوت الجلال، الَّتي لأجلها استحقَّ الحمد؛ ولهذا سمَّى السَّلف كتُبَهم التي صنَّفوها في السنَّة، وإثبات صفات الرَّبِّ وعلوّه على خلقه، وكلامه وتكليمه: توحيدًا؛ لأنَّ نفي ذلك وإنكاره والكفْر به إنكار للصَّانع، وجحد له، وإنَّما توحيده: إثبات صفات كماله، وتنزيهه عن التَّشبيه والنَّقائص"[17].اهـ.
وتوحيد العلم؛ أي: (الاعتقاد والخبر) يرتكز على ركنين:
أحدهما: إثبات مباينة الرَّبِّ - تعالى - للمخلوقات، وعلوّه فوق عرْشِه من فوق سبع سماوات، كما نطقت به الكتُب الإلهيَّة من أوَّلِها إلى آخرها، وأخبرت به جميع الرُّسل من أوَّلهم إلى آخرهم.
الثاني: إفراده - سبحانه - بصفات كماله، وإثباتها له على وجه التَّفصيل، كما أثبتَها لنفسه، وأثبتها له رسلُه، منزَّهة عن التَّعطيل والتَّحريف والتَّمثيل، والتَّكييف والتشبيه؛ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}[18].
فيُباين صاحب هذا الإفراد سائرَ فِرَق أهل الباطل: من الاتِّحادية، والحلولية، والجهميَّة الفرعونية - الَّذين يقولون: ليس فوق السَّماوات ربٌّ يعبد، ولا على العرش إلهٌ يصلَّى له ويسجد -"[19]. اهـ.
"فنفي حقائق أسمائه وصفاته متضمّن للتَّعطيل والتَّشبيه، وإثبات حقائقها على وجْه الكمال الَّذي لا يستحقُّه سواه هو حقيقة التَّوحيد والتنزيه، فالمعطّل جاحد لكمال المعبود والممثّل مشبّه له بالعبيد، والموحد مبينٌ لحقائق أسمائه وكمال أوْصافه، وذلك قطب رحى التَّوحيد، فالمعطّل يعبد عدمًا، والممثِّل يعبد صنمًا، والموحّد يعبد ربًّا ليس كمثله شيءٌ، له الأسماء الحسنى والصّفات العلى، وسِع كلَّ شيء رحمةً وعلمًا"[20].اهـ.
"لذلك فإنَّ: إثبات صفات الكمال هو أصل التَّوحيد"[21].اهـ.
يقول الشَّيخ محمَّد بن عبدالوهَّاب - رحِمه الله - في ردِّه على مسائل سأل عنْها محمد بن عباد: "فمَن أنكر الصفات فهو معطّل، والمعطّل شرّ من المشرك؛ ولهذا كان السَّلف يسمّون التَّصانيف في إثبات الصّفات كتب التَّوحيد، وختمَ البخاري صحيحه بذلك؛ قال: كتاب التَّوحيد، ثمَّ ذكر الصفات بابًا بابًا، فنكْتة المسألة أنَّ المتكلمين يقولون: التَّوحيد لا يتم إلاَّ بإنكار الصّفات، فقال أهل السنَّة: لا يتمّ التَّوحيد إلاَّ بإثبات الصفات، وتوحيدكم هو التَّعطيل؛ ولهذا آل هذا القولُ ببعضهم إلى إنكار الرَّبّ - تبارك وتعالى - كما هو مذهب ابن عربي وابن الفارض وفئام من النَّاس لا يُحصيهم إلاَّ الله"[22].
الأسماء والصفات ذروة سنام العبودية:
"لا حياةَ للقلوب، ولا نعيم ولا لذَّة، ولا سرور ولا أمان ولا طمأنينة، إلاَّ بأن تعرف ربَّها ومعبودَها وفاطرها، بأسمائه وصفاته وأفعاله، ويكون أحبَّ إليْها ممَّا سواه، ويكون سعيها في ما يقرِّبُها إليه ويدْنيها من مرضاته"[23]. اهـ.
فمَن عرف الله أحسن عبوديَّته له:
"فهو مُحسن يُحب المُحْسنين، شكور يُحب الشَّاكرين، جَميل يحب الجمال، طيِّب يحب كلَّ الطيب، عليمٌ يحب العُلماء من عباده، كريم يحب الكُرَماء، قوي، المؤمن القويُّ أحبُّ إليْه من المؤمن الضَّعيف، برٌّ يُحب الأبرار، عدْلٌ يُحب أهل العدل، حييٌّ ستِّير يحبُّ أهل الحياء والسّتر، غفورٌ عفوٌّ يُحب من يعفو عن عبادِه ويغفر لهم، صادق يحبُّ الصَّادقين، رفيق يحب الرِّفق، جواد يحب الجود وأهلَه، رحيم يحبُّ الرُّحماء، وتر يحب الوتر، ويحبُّ أسماءه وصفاته، ويُحب المتعبِّدين له بها ويحب مَن يسأله ويدعوه بها، ويحب من يعرفها ويعقلها ويثْني عليه بها ويَحمده ويمدحه بها؛ كما في الصَّحيح عن النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ليْس أحد أحبَّ إليْه المدْح من الله؛ من أجل ذلك مدَح نفسه، وليس أحد أغْير من الله؛ من أجل ذلك حرَّم الفواحش، وليس أحد أحبّ إليه العذْر من الله؛ من أجل ذلك أنزل الكتُب وأرسل الرُّسل))[24].
وفي حديثٍ آخَر صحيح: ((لا أحد أصبر على أذًى يسمعُه من الله، يَجعلون له ولدًا وهو يرزقهم ويعافيهم))[25]، ولمحبته لأسمائه وصفاتِه أمر عباده بِموجبها ومقتضاها، فأمرهم بالعدْل والإحسان، والبرِّ والعفو، والجود والصَّبر، والمغفرة والرحمة، والصدق والعلم، والشكر والحلم، والأناة والتثبت، ولمَّا كان - سبحانه - يُحبُّ أسماءَه وصفاته كان أحبّ الخلق إليْه منِ اتَّصف بالصِّفات التي يحبها، وأبغضهم إليْه من اتَّصف بالصِّفات التي يكرهها، فإنَّما أبغض من اتَّصف بالكبر والعظمة والجبروت لأنَّ اتِّصافه بها ظلم؛ إذ لا تليق به هذه الصِّفات ولا تحسن منه، لمنافاتِها لصفات العبيد، وخروج من اتَّصف بها من ربقة العبوديَّة ومفارقته لمنصبه ومرتبته، وتعدِّيه طوره وحده، وهذا خلاف ما تقدَّم من الصفات، كالعِلم والعدْل والرَّحْمة، والإحسان والصبر والشكر، فإنَّها لا تنافي العبوديَّة، بل اتّصاف العبد بها من كمال عبوديَّته، إذ المتَّصف بها من العبيد لم يتعدَّ طوْره ولم يخرج بها من دائرة العبوديَّة.
ومَن عرف أنَّ الأسماء الحسنى مقْتضية لآثارها من العبوديَّة، أحسن عبادة ربِّه:
فالأسماء الحسنى والصِّفات العلا مقْتضية لآثارها من العبوديَّة، والأمر اقتضاؤها لآثارها من الخلق والتَّكوين، فلكلّ صفة عبوديَّة خاصَّة هي موجباتها ومقتضياتها، أعني من موجبات العلم بها والتحقُّق بمعرفتها، وهذا مطَّرد في جميع أنواع العبوديَّة التي على القلب والجوارح فعلم العبد بتفرُّد الرَّبّ - تعالى - بالضّرّ والنَّفع، والعطاء والمنْع، والخلق والرزق، والإحياء والإماتة - يثمر له عبوديَّة التوكل عليه باطنًا، ولوازم التوكّل وثمراته ظاهرًا، وعلمه بسمْعه - تعالى - وبصره وعلمه وأنَّه لا يخفى عليه مثقال ذرَّة في السَّماوات ولا في الأرض، وأنَّه يعلم السِّرَّ وأخفى ويعلم خائنة الأعيُن وما تُخْفي الصدور، يثمر له حفظ لسانه وجوارحه وخطرات قلبه عن كل ما لا يُرْضي الله.
وأن يجعل تعلُّق هذه الأعضاء بما يحبُّه الله ويرْضاه، فيثمر له ذلك الحياء باطنًا ويثمر له الحياء اجتِناب المحرَّمات والقبائح، ومعرفته بغناه وجوده وكرمه، وبرِّه وإحسانه ورحْمته تُوجب له سعة الرَّجاء، وتثمر له ذلك من أنواع العبوديَّة الظَّاهرة والباطنة بِحسب معرفته وعلمه، وكذلك معرفته بِجلال الله وعظمته وعزّه تُثْمِر له الخضوع والاستِكانة والمحبَّة، وتثمر له تلك الأحوال الباطنة أنواعًا من العبوديَّة الظاهرة هي موجباتُها، وكذلك علمه بكماله وجَماله وصفاته العلى يوجِب له محبَّة خاصَّة بمنزلة أنواع العبوديَّة، فرجعت العبودية كلها إلى مقتضى الأسماء والصّفات وارتبطتْ بها ارتباط الخلْق بِها، فخلقه - سبحانَه - وأمره هو موجب أسمائه وصفاته في العالم وآثارها ومقتضاها"[26]. اهـ.
فإذا عرفت - أخي في الله - عِظَم هذه المسألة في دين الله، فاسأل نفسك:
ماذا تعلَّمت من أسماء ربِّك وصفاته العُلى؟
وما آثار ذلك في حياتك؟
فوالله، لقد خاب وخسر من جهِل حقيقة الأسماء والصفات، وهنيئًا لمن تدبَّر ذلك ووعاه، وسلك فيه سبيل الَّذين أنْعم الله عليهم من الأنبياء والمرسلين، ومن سلك سبيلهم من المهتدين.
اللَّهمَّ اجعلنا منْهم برحمتك وأنت أرْحم الرَّاحمين.
ـــــــــــــــــــــ
[1] القصيدة النونية لابن القيم: (1/ 15).
[2] شرح العقيدة الواسطيَّة لابن عثيمين: (ص 47).
[3] العقيدة الصحيحة وما يضادّها لابن باز: (ص 13).
[4] التبيان في أقسام القرآن لابن القيم: (1/ 36).
[5] صحيح؛ رواه البخاري ( 1077/ الجمعة/ باب: الدّعاء في الصَّلاة من آخر الليل)، ورواه مسلم (1261/ صلاة المسافرين وقصرها/ باب: التَّرغيب في الدّعاء والذكر في آخر الليل).
[6] صحيح؛ رواه مسلم (4931/ التوبة/ باب: في الحض على التوبة والفرح بها).
[7] صحيح؛ رواه البخاري (2614/ الجهاد والسير/ باب: الكافر يقتل المسلم ثم يسلم)، ورواه مسلم (3504/ الإمارة/ باب: بيان الرجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة).
[8] لم أقف عليه بهذا اللفظ، ولكن في صفة العجب حديث (إنَّ الله ليعجب من الصَّلاة في الجميع) انظر السلسلة الصحيحة (1652)، وحديث (إنَّ ربك ليعجب للشَّاب لا صبوة له) صحَّحه أيضًا الألباني في السلسلة الصحيحة (2843).
[9] مجموع الفتاوى: (3/ 138 - 141).
[10] الحاقة: 44 - 46.
[11] مجموع الفتاوى: 5/ 156.
[12] طريق الهجرتين: ص233.
[13] طريق الهجرتين: (ص211).
[14] درء تعارض العقل والنقل: (5/ 310).
[15] مريم: 42.
[16] الأعراف: 148.
[17] مدارج السَّالكين: (1/ 25) بتصرف يسير.
[18] الشورى: 11.
[19] مدارج السَّالكين: 3/ 445.
[20] الصواعق المرسلة: 1/ 147.
[21] إغاثة اللهفان: (2/ 588).
[22] القسم الرابع من مؤلَّفات الشيخ: (ص 14).
[23] الصَّواعق المرسلة: (1/ 147).
[24] صحيح؛ رواه مسلم (4958/ التوبة/ باب: غيرة الله تعالى).
[25] صحيح؛ رواه البخاري (5634/ الأدب/ باب: الصبر على الأذى)، ورواه مسلم (5016/ صفة القيامة/ باب: لا أحد أصبر على أذى من الله).
[26] مفتاح دار السعادة: (1/ 137).
[img]
[IMG=https://2img.net/r/ihimizer/img263/9480/forestx.jpg][/IMG][/img]